الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة
.المقدمة: وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم الحمد لله الكبير المتعال، العزيز المهيمن ذي العظمة والجلال، المنفرد بصفات الكمال، المنزه عما نحله أهل الزيغ والضلال، المعبود بكل مكان، والمسبح بكل لسان، في كل حين وأوان، مصرف الأزمنة والدهور، وجاعل الظلمات والنور، وباعث من في القبور يوم النشور، ليجازي المحسن بإحسانه الذي هداه إليه، ويعاقب المسيء على إساءته التي قدرها عليه، بإرادته السابقة، وحكمته البالغة، لا لنفع يصل إليه بطاعة المطيعين، ولا لضر يلحقه بعصيان العاصين، تعالى الله عن ذلك أعدل الحاكمين، خلق الإنسان من سلالة من طين، ثم جعله نطفة من ماء مهين، في قرار مكين، ثم نفخ فيه من روحه وأنشأه خلقا آخر في أحسن تقويم، وهدى بفضله من شاء منهم إلى الصراط المستقيم، ووفقه لما ارتضاه من الدين القويم، الذي جعله طريقا إلى ما أعده لأوليائه من الكرامة في جنات النعيم، ورفع فيها درجات من أراد به خيرا ففقهه في الدين، وجعله مقتفيا لآثار من سلف من الأئمة المهتدين، حمدا يقتضي رضاه، ويوجب المزيد من زلفاه. وصلى الله على محمد نبي الرحمة، والداعي إلى ربه وهادي الأمة، وخاتم النبيين، وسيد المرسلين، ورسول رب العالمين، إلى الخلق أجمعين، الشافع في المذنبين، وقائد الغر المحجلين، يوم الجزاء بالدين، إلى دار المحسنين المطيعين، ومأوى الأولياء المقربين وعلى أزواجه وذريته وأهل بيته وجميع صحبه البررة الراشدين المهديين، الذين ارتضاهم الله لصحبته، واختارهم لنصرته، فنصروه في حياته، وقاموا بإحياء الدين بعد وفاته، فبلغوا السنن والآثار، وما جاء به من تبيين مجمل القرآن، ونهجوا طرق الأحكام، والفصل بين الحلال والحرام، صلاة تشرفه بها، في القيامة، وتوجب له الحظوة والكرامة، وتوصله إلى ما وعده به من الوسيلة والفضيلة، والدرجة الرفيعة، برحمته إنه منعم كريم. قال محمد بن رشد: أما بعد ما تقدم من حمد الله عز وجل، والثناء عليه بما هو أهله، والصلاة على نبيه المصطفى، وأهل بيته المرتضى، فإن من أسباب الخير التي يسرها الله تبارك وتعالى من فضله، وسببها بمنه وطوله، أن دخل علي في صدر سنة ست وخمسمائة بعض الأصحاب من أهل جيان، وبعض الطلبة من أهل شلب يقرأ علي في كتاب الاستلحاق من العتبية، فمر في قراءته علي بحضرته بأول مسألة من سماع أشهب، وهي من المسائل المشكلة؛ لأنه قال فيها: سألنا مالكا أترى العمل على الحديث الذي جاء في القافة أيؤخذ بقولهم اليوم ويصدقون؟ فقال: أما فيما تلحقه من الولد فنعم، وأما بقايا أهل الجاهلية فلا أرى أن يؤخذ بقولهم ويصدقوا، ولا يكون ذلك إلا في ولادة الجاهلية. ووقع في بعض الكتب: وأما بقايا أهل الجاهلية فلا، وأرى أن يؤخذ بقولهم، وفي بعضها: ولا يكون ذلك في ولادة الجاهلية. فأشكلت على القارئ المسألة، كما أشكلت على من سواه، وحق لها أن تشكل عليهم؛ لما ذكرناه من اختلاف الألفاظ فيها مع تقديم وتأخير وقع في سياقتها. وسألني أن أبينها عليه ففعلت وكان مما بينت عليه من أمرها أن الاختلاف الذي وقع فيها في الكتب يرجع إلى روايتين مستقيمتين، ففي الرواية الواحدة بثبت الواو في وأرى وثبت إلا في قوله: ولا يكون ذلك إلا في ولادة الجاهلية وفي الرواية الأخرى بسقط الواو من وأرى، وسقط إلا من قوله: ولا يكون ذلك إلا في ولادة الجاهلية. وبسطت له القول في ذلك وبينت عليه وجه كل رواية منهما وما يستقيم به معناهما، فسر بذلك هو ومن حضر المجلس، وقالوا: والله لقد ظهرت المسألة وارتفع الإشكال منها، وكم من مسألة عويصة في العتبية لا يفهم معناها وتحمل على غير وجهها، فلو استخرجت المسائل المشكلات منها وشرحتها وبينتها لأبقيت بذلك أثرا جميلا يبقى عليك ذكره، ويعود عليك ما بقيت الدنيا أجره. فقلت لهم: وأي المسائل هي المسائل المشكلات منها المفتقرة إلى الشرح والبيان، من الجليات غير المشكلات التي لا تفتقر إلى كلام ولا تحتاج إلى شرح وبيان؟! فقل مسألة منها وإن كانت جلية في ظاهرها، إلا وهي مفتقرة إلى التكلم على ما يخفى من باطنها. ابدأ من أول مسألة من كتاب الوضوء: سمعت مالكا قال: لا أرى لأحد أن يتوضأ بفضل وضوء النصراني، فأما بسؤره من الشراب فلا أرى بذلك بأسا. قال ابن القاسم: وقد كرهه غير مرة، وقال سحنون: إذا أمنت أن يشرب خمرا أو يأكل خنزيرا فلا بأس أن يتوضأ به، كان لضرورة أو لغير ضرورة. فهذه مسألة جلية في ظاهرها، مفتقرة إلى التكلم على ما يخفى من باطنها؛ لأنه قال: إنه لا يتوضأ بفضل وضوء النصراني، ولم يبين فضل وضوئه ما هو؟ إذ ليس من أهل الوضوء، ولا بين العلة في الامتناع عن الوضوء منه ما هي؟ ولا هل يمتنع من الوضوء منه مع وجود غيره؟ أو على كل حال وجد غيره أو لم يجد؟ ولا ما يجب عليه إن توضأ به وصلى في الوجهين جميعا؟ ولا هل له أن ينتقل إلى التيمم إن لم يجد سواه أم لا؟ والعلة في جواز ذلك إن جاز والمنع منه إن لم يجز ما هي؟ وما يكون الحكم إن انتقل إلى التيمم على القول بأنه لا ينتقل إليه، وإن لم ينتقل إليه على القول بأنه ينتقل إليه؟ ولا بين العلة في الفرق بين سؤره وفضل وضوئه ما هي؟ ولا هل يستوي ذلك عنده على القول بأنه كره سؤره في جميع الأحوال أم لا؟ فهل هذا كله إلا مما يحتاج إلى بيانه؟ وكذلك يحتاج إلى معرفة قول سحنون في تفرقته التي فرق في سؤر النصراني بين أن يؤمن أن يكون قد أكل خنزيرا أو شرب خمرا، أو لا يؤمن ذلك، هل هي خلاف لقولي مالك جميعا؟ أو لأحدهما؟ أو تفسير لهما؟ فإذا كان الأمر على هذا أو قريب منه في أكثر المسائل، فقصد القاصد إلى التكلم على بعضها تعب وعناء بغير كبير فائدة؛ إذ قد لا يشكل على كثير من الناس ما يظنه هو مشكلا فيتكلم عليه ويشكل عليهم ما يظنه هو جليا فيهمل التكلم عليه. وإنما كانت تكون الفائدة التامة التي يعظم النفع بها، ويستسهل العناء فيها، أن يتكلم على جميع الديوان كله مسألة مسألة على الولاء، كي لا يشكل على أحد من الناس معنى في مسألة منها إلا ويجد التكلم عليها، والشفاء مما هو في نفسه منها؛ لأنه ديوان لم يعن به أحد ممن تقدم كما عنوا بالمدونة التي قد كثرت الشروح لها، على أنه كتاب قد عول عليه الشيوخ المتقدمون من القرويين والأندلسيين، واعتقدوا أن من لم يحفظه ولا تفقه فيه كحفظه للمدونة وتفقهه فيها، بعد معرفة الأصول، وحفظه لسنن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فليس من الراسخين في العلم، ولا من المعدودين فيمن يشار إليه من أهل الفقه. فلما سمعوا ذلك من قولي تنبهوا له وشرهوا إليه وحرصوا عليه، ورغبوا إلي فيه في غير ما موطن آحادا مفترقين، وجماعة مجتمعين، فتوقفت عن ذلك مدة مخافة العجز عن بلوغ الغرض والبغية فيه بتمامه، بقاطع يحول دون إكماله. ثم إن الله تعالى شرح صدري للشروع فيه، بعد أن خلصت النية في ذلك لله عز وجل رجاء الأجر على ذلك من الله عز وجل والمثوبة، ودعوت ضارعا في التوفيق والمعونة، ورجوت أن يجازي الله على النية في تمامه إن حال قاطع دون ذلك، فشرعت فيه وبدأت بكتاب الوضوء من أول الديوان مسألة مسألة على الولاء، أذكر المسألة على نصها، ثم أشرح من ألفاظها ما يفتقر إلى شرحه، وأبين من معانيها بالبسط لها ما يحتاج إلى بيانه وبسطه، وأحصل من أقاويل العلماء فيها ما يحتاج إلى تحصيله، إذ قد تتشعب كثير من المسائل وتفترق شعبها في مواضع، وتختلف الأجوبة في بعضها لافتراق معانيها، وفي بعضها باختلاف القول فيها، فأبين موضع الوفاق منها من موضع الخلاف، وأحصل الخلاف في الموضع الذي فيه منها الخلاف، وأذكر المعاني الموجبة لاختلاف الأجوبة فيما ليس باختلاف، وأوجه منها ما يحتاج إلى توجيه بالنظر الصحيح والرد إلى الأصول والقياس عليها، فإن تكررت المسألة في موضع آخر دون زيادة عليها ذكرتها في موضعها على نصها، وأحلت على التكلم عليها في الموضع الأول؛ وإن تكررت في موضع آخر بمعنى زائد يحتاج إلى بيانه والتكلم عليه كتبتها أيضا على نصها وتكلمت على المعنى الزائد فيها وأحلت في بقية القول فيها على الموضع الذي تكلمت عليها فيه من الرسم والسماع الذي وقع الكلام فيه عليها؛ ليكون كل من أشكل عليه معنى من المعاني في أي مسألة كانت من مسائل الكتاب طلبها في موضعها من الكتاب، فإما أن يجد التكلم عليها فيه مستوفى، وإما أن يجد الإحالة على موضعه حيث تقدم. ولما كمل كتاب الوضوء على هذه الصفة من استيعاب جميع مسائله على نصوصها، والتكلم على كل مسألة منها صغرت أو كبرت بما تفتقر إليه وتكمل به، سررت بما أبان لي من عظيم الفائدة فيه، أنه احتوى مع استيعاب شرح مسائله على شرح عامة مسائل المدونة وتحصيل كثير من أمهاتها لتعلقها بها بما لا مزيد عليه ولا غاية وراءه، وعلمت أنه إن كمل شرح جميع الديوان على هذا الترتيب والنظام، لم يحتج الطالب النبيه فيه إلى شيخ يفتح عليه معنى من معانيه؛ لأني اعتمدت في كل ما تكلمت عليه، بيان كل ما تفتقر المسألة إليه، بكلام مبسوط واضح موجز يسبق إلى الفهم بأيسر تأمل وأدنى تدبر، ورجوت على ذلك المثوبة من الله عز وجل، فأجهدت نفسي في التمادي على شرح بقيته حرصا وإقبالا، فتماديت لا آوي إلى راحة متى ما تفرغت من ليل أو نهار، فكلما أكملت منه كتابا ازددت من التمادي على بقيته حرصا وإقبالا، فتماديت إلى أن أكملت رزمة الصلاة، ورزمة النكاح، ورزمة البيوع، وشرعت في رزمة الأقضية، امتحنت بتولي القضاء، وذلك في جمادى الأولى من سنة إحدى عشرة وخمسمائة، فشغلتني أمور المسلمين عما كنت بسبيله من ذلك، ولم أقدر من التفرغ إليه على أكثر من يوم واحد في الجمعة اعتزلت فيه عن الناس إلا فيما لم يكن منه بد، فما كمل لي على هذا منه في مدة تولية القضاء، وذلك أربعة أعوام غير أيام، إلا نحو أربعة كتب أو خمسة، فأيست من تمامه في بقية عمري، إلا أن يريحني الله عز وجل من ولاية القضاء، وكنت من ذلك تحت إشفاق شديد وكرب عظيم، وذكرت ذلك لأمير المسلمين وناصر الدين أبي الحسن علي بن يوسف بن تاشفين- أدام الله تأييده وتوفيقه- في جملة الأعذار التي استعفيت بسببها، وغبطته بالأجر على تفريغي لتمامه، فقبل الرغبة في ذلك لرغبته فيما رغبته فيه من الثواب، وأسعف الطلبة فيه لما رجاه بأن تثقل بذلك موازينه يوم الحساب، والله يدخر له هذه الحسنة ويبوئه منها من درجات الجنة أعلى درجة برحمته، فواليت من حينئذ في إكمال الكتاب إلى أن كمل بحمد الله تعالى وعونه في مستهل شهر ربيع الآخر من سنة سبع عشرة وخمسمائة. والله أسأل المجازاة على ذلك برحمته. وقد كان بعض الأصحاب سألني أن أمهد في أول كل كتاب منه مقدمة تنبئ عليه مسائله من الكتاب والسنة، وترد إليها بالقياس عليها مع الربط لها بالتقسيم والتحصيل لمعانيها، فرأيت أن أختصر ذلك في كتب هذا الديوان، اكتفاء بما اعتمدته منه في كتب المدونة، وذلك أني جمعت جملا وافرة مما كنت أورده في كل كتاب منها على الأصحاب المجتمعين إلى المذاكرة فيها والمناظرة، وأقدمه وأمهده من معنى اسمه واشتقاق لفظه وتبيين أصله من الكتاب والسنة، وما اتفق عليه أهل العلم من ذلك أو اختلفوا فيه، ووجه بناء مسائله عليه وردها إليه، بالتقسيم لها والتحصيل لمعانيها، جريا على سنن شيخنا الفقيه أبي جعفر بن رزق رَحِمَهُ اللَّهُ وطريقته في ذلك، واقتفاء لأثره فيه، وإن كنت أكثر احتفالا منه في ذلك، لاسيما في أول كتاب الوضوء، فإني كنت أشبع القول فيه ببنائي إياه على مقدمات من الاعتقادات في أصول الديانات، وأصول الفقه في الأحكام الشرعيات، لا يسع جهلها، ولا يستقيم التفقه في حكم من أحكام الشرع قبلها، فله الفضل في التقدم والسبق، فإنه نهج الطريق وأوضح السبيل ودل عليه بما كان يعتمده من ذلك مما لم يسبقه من تقدم من شيوخه إليه، وليس ذلك بغريب، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ومبلغ حديث إلى من هو أوعى له منه، والتوفيق بيد الله يوتيه من يشاء. ووصلت ما جمعت من ذلك ببعض ما استطرد القول فيه من أعيان مسائل وقعت في المدونة ناقصة مفترقة، فذكرتها مجموعة ملخصة مشروحة بعللها، فاجتمع من ذلك تأليف مفيد ينتهي أزيد من خمسة وعشرين جزءا، سميته بكتاب المقدمات الممهدات لبناء ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات، والتحصيلات المحكمات لأمهات مسائلها المشكلات، إلا أنه كتاب لم يتخلص بعد، فإذا تخلص بعون الله تعالى ونقل من مسودته إن شاء الله تعالى، وجمعه الطالب إلى هذا الكتاب، حصل على معرفة ما لا يسع جهله من أصول الديانات وأصول الفقه، وعرف العلم من طريقه، وأخذه من بابه وسبيله، وأحكم رد الفرع إلى أصله، واستغنى بمعرفة ذلك كله عن الشيوخ في المشكلات، وحصل في درجة من يجب تقليده في النوازل المعضلات، ودخل في زمرة العلماء الذين أثنى الله تعالى عليهم في غير ما آية من كتابه ووعدهم فيه بترفيع الدرجات. والله تعالى أسأله التوفيق برحمته. .كتاب الوضوء: .الوضوء بفضل وضوء النصراني: قال محمد بن رشد: يريد مالك رَحِمَهُ اللَّهُ بفضل وضوء النصراني ما بقي من الماء الذي غسل به يديه أو سائر جسده تنظفا أو تبردا؛ لأن غسل اليد يسمى وضوءا في اللسان، إذ هو مشتق من الوضاءة والنظافة. ومنه الحديث: «الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر، وبعده ينفي اللمم»، روي ذلك عن الحسن ومثله لا يكون إلا توقيفا عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ وقد روي عنه نصا، وإنما قال مالك رَحِمَهُ اللَّهُ: إنه لا يتوضأ به لأجل أنه أدخل يده فيه، وهو قوله في المدونة: لا يتوضأ بسؤر النصراني ولا بما أدخل يده فيه، يريد أنه لا يتوضأ به وجد غيره أو لم يجده، ويتيمم إن لم يجد سواه، فإن توضأ به في الوجهين أعاد في الوقت. ويحتمل أن يريد أنه لا يتوضأ به مع وجود غيره، فإن توضأ به مع وجود غيره أعاد في الوقت، وإن لم يجد غيره توضأ به على كل حال ولم يتيمم. والتأويل الأول أولى وأظهر على مذهبه في رواية ابن القاسم عنه. ووجهه: أنه حمل يده على النجاسة؛ إذ الأغلب منها أنها لا تنفك عن النجاسة لأنها تجول على جسده وفيه النجاسة، ويباشر أيضا بها، سائر النجاسات التي لا يتوقى منها، فكان كأنه قد أيقن بنجاستها. ووجه التأويل الثاني أنه لما، لم يوقن بنجاسة يده وجب أن لا يتوضأ به مع وجود غيره احتياطا، وأن لا ينتقل عن الوضوء المفروض عليه مع وجوده إلى التيمم إلا بيقين على الأصل في أنه لا تأثير للشك في اليقين. وإلى هذا التأويل ذهب ابن حبيب، ولم ير عليه إعادة إن توضأ به وهو يجد غيره. وأما سؤره من الشراب فمرة قال: لا بأس به، أي لا كراهية في الوضوء به إذا لم يجد غيره، بل واجب عليه أن يتوضأ به ولا يتركه ويتيمم، ولا إعادة عليه إن توضأ به وهو يجد غيره، وهو قول ابن عبد الحكم، ومرة كرهه؛ أي كره الوضوء به إن وجد سواه، فإن توضأ به وهو يجد سواه أعاد في الوقت، وإن لم يجد سواه توضأ به ولم يتيمم. وعلى مذهبه في المدونة في مساواته بينه وبين ما أدخل فيه يده لا يتوضأ به، وجد سواه أو لم يجد، ويتيمم إن لم يجد سواه، فإن توضأ به في الوجهين أعاد في الوقت، وهو قول سحنون؛ لأن في قوله إذا أمنت أن يشرب خمرا أو يأكل خنزيرا فلا بأس أن يتوضأ به كان لضرورة أو لغير ضرورة، دليلا على أنه إذا لم يأمن ذلك فلا يتوضأ به كان لضرورة أو لغير ضرورة. ويبين ذلك من مذهبه قوله في نوازله من هذا الكتاب: إنه كالكلب المخلى على القذر والنجاسة، فيتيمم ولا يتوضأ بسؤره. ووجه القول الأول أنه لما كانت النجاسة إن كان قد تناولها بفيه لا تثبت فيه ويزيل عنها منه الريق حمله على الطهارة حتى يوقن فيه بالنجاسة، ولم يحمله في القول الثاني على الطهارة ولا على النجاسة، فكره الوضوء به مع وجود سواه، ولم ير أن ينتقل عنه إلى التيمم إن لم يجد سواه، وهو على مذهبه في المدونة محمول على النجاسة مثل قول سحنون؛ لأنه لما كان لا يرع عنها صار عنده كالكلب المخلى عليها. .فصل: إن تحققت طهارة يد وفم النصراني فهل يجوز استعمال سؤره؟ .مسألة اغتسال الجنب في البئر هل يفسده؟ قال محمد بن رشد: هذا صحيح لا اختلاف فيه في المذهب أن الماء الكثير لا ينجسه ما حل فيه من النجاسة إلا أن يغير أحد أوصافه، إلا رواية شاذة رواها ابن نافع عن مالك نحا بها مذهب أهل العراق. والدليل على ما عليه عمدة المذهب ما روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن بئر بضاعة وما يلقى فيها من الأقذار والنجاسات فقال: «الماء طهور ولا ينجسه شيء»، يريد إلا ما تغير أحد أوصافه، وذلك مذكور في بعض الآثار. وإنما اختلف في جواز الاغتسال فيه ابتداء دون أن يغسل ما به من الأذى، فكرهه مالك للنهي الوارد عن الغسل في الماء الدايم، وأجازه ابن القاسم إذا كان الماء يحمل ما به من الأذى، وذلك قائم من المدونة ومنصوص عليه في رسم البير من هذا السماع، وفي رسم العتق من سماع عيسى من هذا الكتاب. وفرقوا بين حلول النجاسة المائعة في الماء الكثير الدائم وبين موت الدابة فيه استحسانا على ما يأتي في مسائلهم. ولو وقعت فيه الدابة ميتة وأخرجت من ساعتها قبل أن تطول إقامتها فيه لم يفسد ذلك الماء، وكذلك لو وقعت فيه حية فأخرجت قبل أن تموت. وقد سئل سعيد بن نمر عن فارة وقعت في قصرية شراب فقع فأخرجت حية، فقال: إنه يهراق ولا يوكل، وحكى غيره أن في سماع ابن وهب عن مالك مثله، وهو بعيد وشذوذ لا وجه له، فالله أعلم بصحته. .مسألة في حلول النجاسة في الماء والطعام: قال محمد بن رشد: ظاهر هذه الرواية أن النجاسة اليسيرة لا تفسد الطعام الكثير ولا تنجسه، كما لا تفسد الماء الكثير ولا تنجسه، وهذا مما لا يقوله إلا داوود القياسي ومن شذ عن الجمهور وخالف الأصول؛ لأن الله تعالى خلق الماء طهورا، فهو يحمل ما غلب عليه من النجاسات، بخلاف ما عداه من الأطعمة والأدم المائعات. والفرق بينهما أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن ماء بير بضاعة وما يلقى فيها من الأقذار والنجاسات فقال: «خلق الله الماء طهورا لا ينجسه إلا ما غير لونه أو طعمه أو رائحته»، وسئل عن الفارة تقع في السمن فقال: «انزعوها وما حولها فاطرحوه وإن كان مائعا فلا تقربوه»، وهذا ما لا خلاف فيه بين فقهاء الأمصار، وإنما اختلفوا في جوازه للانتفاع به وبيعه، فمنهم من لم يجز شيئا من ذلك وهو مذهب ابن الماجشون من أصحابنا، ومنهم من أجاز جميع ذلك وهو مذهب ابن وهب من أصحابنا. ودليل رواية ابن القاسم عن مالك في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من كتاب الصلاة في مسألة الصابون، ووقعت أيضا في سماع ابن القاسم من هذا الكتاب في بعض الروايات. ودليل رواية أشهب أيضا في كتاب الضحايا من العتبية. ومنهم من أجاز الانتفاع به ولم يجز بيعه، وهو مذهب ابن القاسم وأكثر أصحاب مالك، فوجب أن لا تحمل الرواية على ظاهرها وأن تتأول على ما ذهب إليه الجمهور مما يطابق الأصول، فنقول: إن معنى قوله: والطعام والودك كذلك؛ أي أن القطرة من الطعام والودك إذا وقعت أيضا في الماء الكثير لم تؤثر فيه ولا أخرجته عن حكمه من التطهير كما لم تخرج القطرة من البول أو الخمر الماء الكثير عن حكمه من الطهارة والتطهير. وقوله: إلا أن يكون يسيرا معناه إلا أن يكون الماء الذي وقع فيه شيء من ذلك يسيرا يتغير من ذلك بعض أوصافه فينجس بالنجاسة وينضاف بالطعام. فهذا تأويل سائغ تصح به الرواية على الأصول وما عليه الجمهور. وقد روي أنه سئل علماء البيرة عن فارة انطحنت مع قمح في رحى الماء، فقالوا: يغربل الدقيق ويؤكل، فبلغ ذلك سعيد بن نمر من قولهم فقال: عليهم بحرز العجول، لا يؤكل على حال. قال محمد بن رشد: وهو الصحيح. وإنما غلط علماء البيرة في هذه المسألة من هذه الرواية بحملها على ظاهرها، والله أعلم. .مسألة الدواب تدرس الزرع فتبول فيه: قال محمد بن رشد: وإنما خفف ذلك مع الضرورة للاختلاف في نجاسته كما خفف المشي عن أرواث الدواب وأبوالها في الطرقات مع الضرورة إلى ذلك من أجل الاختلاف في نجاستها. وأما ما لا اختلاف في نجاسته فلا يخفف مع الضرورة. وقد روى سليمان بن سالم الكندي من أصحاب سحنون أنه كان يقول: إذا وقعت القملة في الدقيق ولم تخرج في الغربال لم يؤكل الخبز، وإن ماتت في شيء جامد طرحت كالفارة. وقاله غيره في البرغوث أيضا، وفرق غيره بينهما فقال: إن البرغوث كالذباب الذي يتناول الدم، وأما القملة فهي من الإنسان كدمه. قال محمد بن رشد: وهذا إغراق إذا كثر العجين؛ لأن القملة لا تنماع في جملة العجين فتنجسه، وإنما تختص بموضعها منه، فإذا تحرم اللقمة التي هي فيها، فلما لم تعرف بعينها لم يجب أن يحرم أكل اليسير منه إذا كثر، كما لو أن رجلا يعلم أن له أختا ببلدة من البلاد لا يعرف عينها، لم يحرم عليه أن يتزوج من نساء تلك البلدة، بخلاف اختلاطها بالعدد اليسير من النسوة، فإذا خففنا تناول شيء منه لاحتمال أن تكون القملة فيما بقي، خففنا تناول البقية أيضا لاحتمال أن تكون القملة فيما تناول والله أعلم. .مسألة توضأ وصلى ثم علم أن عليه الإعادة: مسألة وقال سحنون: إذا توضأ رجل بماء قد تغير مما وقع فيه تغييرا شديدا فصلى بذلك الوضوء ثم علم أن عليه الإعادة في الوقت وبعد الوقت، قال: وهذه الرواية أحب إلي من رواية ابن القاسم؛ لأنه إذا غلبت عليه النجاسة خرج عن حد الماء وصار كالمصلي بغير وضوء. قال محمد بن رشد: التغير الشديد هو أن يتغير الماء عن لونه أو طعمه أو تشتد تغير رائحته وإن لم يتغير لونه ولا طعمه، والتغير الذي ليس بشديد هو أن يتبين تغيير رائحته من غير أن يشتد التغير مع أن لا يحول عن لونه ولا عن طعمه؛ لأن ابن الماجشون لا يراعي تغير الرائحة جملة، فأراه نحا إلى قوله في اشتراطه شدة التغير، وقد اشترطه مالك أيضا في آخر سماعه من هذا الكتاب، وسنتكلم عليه في موضعه إذا مررنا به إن شاء الله. وقوله: وهذه الرواية، إشارة منه إلى رواية لم يذكرها قد جرى ذكرها في المجلس كرواية علي بن زياد عن مالك في المدونة، أو ما كان في معناها مما وقع في مختصر ابن عبد الحكم وغيره. ولم يذكر أيضا رواية ابن القاسم التي استحب الرواية التي أشار إليها عليها فيحتمل أن يكون أراد رواية ابن القاسم عن مالك الواقعة في هذا الرسم بعد هذه المسألة بمسألة، فإن كان أرادها فإنما اختار الرواية التي أشار إليها عليها- لما فيها من الإجمال والاحتمال. ويحتمل أن يكون أراد أيضا إطلاقه عنه أن من توضأ بماء نجس أعاد في الوقت؛ لأن وصفه بالنجس يقتضي تغير أحد أوصافه من النجاسة، وهو لا يقول: إنه يعيد في الوقت إلا في الماء اليسير الذي لم يتغير أحد أوصافه بما حل فيه من النجاسة. فإن كان أراد هذه الرواية فإنما اختار الرواية التي أشار إليها عليها لفسادها في الظاهر ولأنها أبين منها وأفسر؛ إذ لا يقول ابن القاسم ولا أحد من أهل العلم: إن من توضأ بماء قد غلبت عليه النجاسة وتغير منها تغيرا شديدا أنه لا يعيد أبدا، وهذا حفظنا عن شيوخنا في تأويل قول سحنون هذا وتصحيحه، والله أعلم بحقيقة الصواب في ذلك. .مسألة الرجل يصلي بثوب فيه نجاسة: قال محمد بن رشد: مثل هذا لابن وهب أيضا في سماع عبد الملك من كتاب الصلاة، ومذهبه أن رفع النجاسات من الثياب والأبدان من فرائض الصلاة، فسواء عن مذهبه صلى بثوب فيه نجاسة ناسيا أو متعمدا أو جاهلا بالنجاسة أو بوجوب رفعها في حال الصلاة أو مضطرا إلى الصلاة فيه لعدم سواه، يعيد أبدا في الوقت وغيره. وإنما يقول: إنه يعيد أبدا في الوقت وغيره إذا كانت النجاسة متفقا عليها كبول بني آدم والرجيع والاحتلام ودم الحيضة والميتة وما أشبه ذلك، كذا روى أبو الطاهر عنه، وذلك مفسد لهذه الرواية. والمشهور في المذهب قول ابن القاسم وروايته عن مالك أن رفع النجاسات من الثياب والأبدان سنة لا فريضة، فمن صلى بثوب نجس على مذهبهم ناسيا أو جاهلا بنجاسته أو مضطرا إلى الصلاة فيه أعاد في الوقت. واختلف في الوقت الذي يعيد فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: الاصفرار، والثاني: الغروب، والثالث: أنه الغروب في المضطر والاصفرار فيما سواه. وإن صلى به عالما غير مضطر أو متعمدا أو جاهلا أعاد أبدا لتركه السنة عامدا. ومن أصحابنا من قال: إن رفع النجاسات عن الثياب والأبدان فرض بالذكر يسقط بالنسيان، كالكلام في الصلاة، وليس ذلك عندي بصحيح؛ لأنه ينتقض بالذي يصلي فيه مضطرا إلى الصلاة به؛ لأنه ذاكر ولا يعيد إلا في الوقت. وقال بعضهم: فرض مع الذكر والقدرة تحرزا من هذا الاعتراض.
|